قيس قاسم
بوتين المخادع
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شاغل السينما الوثائقية دون منازع، فخلال السنوات الأربعة الأخيرة أُنجزت ثلاثة أفلام مهمة عنه: "قبلة بوتين" 2012، للمخرجة ليزا بريك بيدرسن، "ألعاب بوتين" 2013، إخراج ألكسندر جنتيليف والآن وفي بداية هذا العام يضيف نيل دوتشرتي إلى القائمة "طريق بوتين". كل عناوينها كما نلاحظ مقرونة باسمه وفي هذا دلالة على درجة ارتباطها بشخصيته التي كثيراً ما توصف بالطموحة والغامضة والقاسية في آن، لهذا تراها انشغلت موضوعاتها في التحري عن هذه الجوانب من شخصيته وارتباطها مع حدث معين كما في منجز بيدرسن الذي تابعت فيه مسار حياة شابة روسية ربطت مصيرها الشخصي والسياسي بمصير بوتين وسلطته، في حين ركز الروسي جنتيليف على دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي والفساد المالي الذي رافقها وحجم المداخيل غير الشرعية التي دخلت جيوب الطغمة المالة الروسية المقربة من الرئيس وحاشيته خلالها، لكن ما يميز "طريق بوتين" عن ما سبقه من أفلام أنه حاول تتبع مسيرة الرجل والطريق التي سار عليها منذ شبابه حتى وصوله إلى الكرملين.
بوتين العميل السرّي
استثمر دوتشرتي صدور عدد من الكتب الجديدة عن الرئيس الروسي بوتين ليؤسس عليها مادته السردية وبشكل خاص اعتماده على كتاب "بوتين الاختلاس.. من يربح روسيا؟" للمختصة بالشؤون الروسية والأستاذة في جامعة ميامي كارين داويشا، وغيرها من المصادر التي راح يربطها بشخصيات وردت في متنها وهي على صلة شديدة ببوتين ومسيرة حياته وذلك عبر مقابلات أجرتها الصحافية جيلين فيندي معهم، ومن بينهم محقق الشرطة السابق أندريه زيكوف الذي مهّد الدخول إلى شخصية بوتين من خلال تحليل دوره كسياسي وكعميل سابق للمخابرات الروسية (كي جي بي) وبوصفة الرجل الذي هيكَل فساد الدولة بشكل منهجي وبخطة جهنمية نابعة من تكوينه كشخص يعبد "السلطة" ويُغلبُها على الإنسان مهما كان وأينما وجد، مع تمتعه بخصلة نادرة تجمع الحنكة والتآمر والتسلل إلى القمة بحذر شديد، فهو يعرف بخبرته كعميل وجاسوس سابق أن الطموح إلى السلطة كثيراً ما ترافقه تبعات خطيرة.
زيكوف تولى التحقيق في قضايا فساد تورط بها بوتين إلا أن أجهزة الشرطة منعته من الاستمرار بها فما كان منه إلا نشرها على الـ"يوتيوب" وبدورها وقبل مسحها تماماً تمكنت كارين داويشا من تحميلها وحفظها لتكون أساساً موثقاً لبحثها القادم عن بوتين!
بوتين الطالب الغامض
تُقرّ في المقابلات التي أجرتها معها الصحافية جيلين فيندي بأن الفساد كان علامة مميزة لكل السلطات والحكومات في روسيا والاتحاد السوفيتي وأن الطريق إلى دفة الحكم وعرة ومتابعة مسيرة بوتين تُظهر ذلك بوضوح، فالرجل وقبل سقوط الاتحاد السوفيتي كان عاطلاً عن العمل بعد سحبه من مهمته كعميل في ألمانيا الشرقية، وتطلبت عودته إلى الوظيفة ثم الصعود إلى القمة مهارات وتكتيكات غير عادية مكنّته في المضي في مسيرته التي انطلقت قبل عشرين عاماً من مدينة سان بطرسبورج نحو الكرملين في موسكو.
سنة 1990 كانت نقطة الانعطاف المهمة في مسيرته، وقتها كان الاتحاد السوفيتي يمضي إلى نهايته وكان القلق من المستقبل والحيرة تخيمان على رؤوس الشعب الروسي الذي بدا مشككاً بكل ما سيأتي؛ حتى بوتين نفسه لم يعرف ما الذي عليه عمله؛ إلا حين حلّت اللحظة المناسبة التي اُنتخب فيها صديق دراسته أنتالوي سوبتياك محافظاً للمدينة فاستثمرها بالكامل. أراد المحافظ الجديد نسج علاقات مع الغرب لإدراكه نهاية الاشتراكية في بلاده ولهذا فكر في كسب مقربين له من الأكفاء يقومون بمهمة نسج علاقات اقتصادية جديدة مع الشركات الرأسمالية وكان بوتين واحداً من الذين استقبلهم واستمع إلى رأيهم.
بوتين القيصر الجديد
سيُسحَر الرجل بالطاقة والقدرة التي يتمتع بها بوتين الذي يعرف ألمانيا والغرب جيداً ويعرف طرق الوصول إلى قلوب قادته، ليس هذا فحسب بل يعرف أسرار البلاد التي بدأت العصابات المنظمة تتوغل فيها فكانت أولى مهامه فتح خط معهم في سان بطرسبورغ وليس هناك أفضل منه من يستطيع القيام بهذه المهمة. جمع بوتين في وظيفته الجديدة، كمستشار للمحافظ لشؤون العلاقات الاقتصادية، بين الخارج والداخل، وقام باتصالات مهمة مع كبريات الشركات العالمية ومنحها امتيازات الإقامة والسكن وفتح المكاتب. لقد استثمر الأزمة الأقتصادية التي تمر بها البلاد وشحّ المواد الغذائية فوعَد بحلها من خلال إبرام عقود وتأسيس شركات تجارية برؤوس أموال ضخمة سُجّلت باسم المحافظ والمقربين منه. لم يصل الزيت ولا بقية المواد الغذائية للناس كما وعَد وذهبت كل الأموال في جيوب "عصابة" سوبتياك ورغم الاحتجاجات الكبيرة ضده تشبث المحافظ به وأوكل له بالمطلق مهمة الاتصال بالخارج وبناء مشاريع عامة كي تنتهي خاصة.
بوتين تحالف الفساد
سيكشف أحد المحققين في قضايا الفساد أن بوتين قد أدخَل بطرق غير شرعية وبعمليات غسل أموال منظمة أكثر من مليارين دولار إلى جيب المحافظ وبني قصراً له بتكلفة خرافية في إسبانيا. لكن ومع حلول عام 1996 تغيرت أشياء كثيرة خسر خلالها المحافظ الانتخابات وتعرّض لحملة مساءلة أنقذه منها بوتين بدهاء. لقد رسم له خطة للهروب من البلاد عبر إعداده مسرحية محكمة العناصر يظهر فيها المحافظ السابق مريضاً وبحاجة لعلاج سريع في الخارج. رتب له كل شيء وأركبه طائرة خاصة أقلّته إلى باريس التي سيظهر بعد أيام فيها معافى ويدلي بتصريحات صحفية. إخلاصه لمرؤوسه تابعه بوريس يلتسين الرئيس الفاسد، والذي نهب مع عائلته ثروة البلاد، وكان يبحث عن أحدٍ يثق به ويظلّ واقفاً إلى جانبه حتى بعد خروجه من السلطة؛ شخص يعيد تجربة الإخلاص مع محافظ سان بطرسبورغ السابق. يراجع الوثائقي هذه الفترة بكم هائل من المعلومات والمقابلات والتحرّي الدقيق في كل تهمة ضد بوتين فيتحول هذا الفصل فيه إلى مرافعة قانونية متينة ضد بوتين المتجّه لمقابلة يلتسين.
أكبر مشكلة واجهت يلتسين لإبراز بوتين كانت بوتين نفسه. فالرجل لم يكن معروفاً في الأوساط الحزبية الروسية ولا يملك تاريخاً نضالياً في صفوف الحزب الشيوعي باستثناء كونه عميلاً للـ (كي جي بي). سيرسم المقربون والإعلاميون الرسميون مهمة إبرازه من خلال رسم صورة براقة له فكلفوا من أجل هذا الكاتبة ناتاليا غيغوركيان بتأليف كتاب سيرة عنه يشمل كل شيء عن حياته وتعظيم دوره كعميل مخلص لبلاده منذ صباه، حين تقدم بطلب انتساب إلى المؤسسة الأمنية وهو مازال طالباً في الثانوية، ثم أكمل دراسة الحقوق وتزوج وعمل كجاسوس في ألمانيا الديمقراطية. لم يشر الكتاب إلى أصوله وفقره وإلى بقية أفراد عائلته، كان التركيز منصباً على دوره كعميل ورجل مخلص للدولة. كما سيقوم أحد السينمائيين بإنجاز وثائقي عنه بعنوان "السلطة" يكشف بوتين فيه وبشكل واضح دوره كجاسوس. هكذا عَرّف يلتسين العالم به وبدأ بتقريبه إلى دائرته الضيقة، وسيطمئن، بعد فترة وجيزة حين يُؤمِّن له بسلاسة عملية ترشيحه للرئاسة، إلا أن انسحابه سيكون مضموناً وخالياً تماماً من احتمال اثارة أي شبهات فساد ضده بعد نهاية حكمه.
معارضون وضحايا
يتوقف الوثائقي الأمريكي "طريق بوتين" طويلاً عند الأساليب التي اتبعها بوتين بنفسه لتقوية موقعه كقائد روسي جديد، يُعيد مجد القياصرة ويُرجع ما خسرته البلاد من أمصار وحقوق قومية، وأشدّها دموية وخطورة تخطيطه لعمليات تفجير مباني سكنية في روسيا عام 1999، والتي أطلق عليها الصحافيون اسم "11 سبتمبر الروسية" وإحالة العملية للمتمردين الشيشان. سيفتح بهذه الخطوة الخطيرة الباب لاحتلال الشيشان أولاً وللظهور كقائد قوي قومي النزعة ثانياً وليقطع بها تردد القيادات في ترشيحه لرئاسة البلاد بعد نيله منصب رئيس الوزراء، ثالثاً. يعود الوثائقي ليتحرّى في مصداقية القصة الرسمية وليُظهر بعد عثوره على أدلة جديدة وحصوله على معلومات مهمة من ممثل عوائل الضحايا ميشيل تريباسكين، الذي لُفقت له تهمة حيازة سلاح غير مرخص وأودع السجن لعامين على إثرها. شهادة هذا الرجل والوثائق المصورة لمواد متفجرة، وجدت في أقبية العمارات وأشرفت المخابرات الروسية على نقلها إلى هناك؛ تتطابق مع تلك المستخدمة في التفجيرات إلى جانب محاولات الشرطة إزالة أي أثر في الموقع يساعد على التحقيق. إجراءات عزّزت قناعة عند الكثير من الروس بأن العملية كانت مرتبة وأن ثمنها كان الشعب الشيشاني الذي نُكِّب بالحرب والضحايا الأبرياء من سكان تلك البنايات الملغمة. ستكشف العملية عن وجه مخيف لبوتين ورغبة للفوز بالسلطة على حساب الناس والشعوب، واستهتار بوعي الروس وتقوية لمواقع المفسدين الذين تعمدوا وبشكل ممنهج إفساد النظام الاقتصادي للبلاد والتعاون مع المؤسسات الاقتصادية الغربية لجعل روسيا محمية رأسمالية جديدة يقودها زعيم قُدِّرت ثروته حتى الآن بأربعين مليار دولار أمريكي، وتحيطه طغمة مالية محلية (الأوليغارشية) تتحكم بكل مفاصل الاقتصاد وتغتني على حساب الشعب الذي يقدم الوثائقي تحليلاً رائعاً عن مستوى الفقر الذي يعيشه وحجم مداخيله السنوية التي تقلّ عن مداخيل المواطن الهندي العادي.
لايتوقف "طريق بوتين" عند الداخل بل يمتد إلى خارج الحدود فيرسم صورة دقيقة، مصدقة بشهادات ووثائق، عن آليات عمل بوتين في إفساده قادة غربيين من بينهم: صديقه المقرب المستشار الألماني غيرهارد شرويدر والإنكليزي توني بلير والمتعاطف الدائم معه بوش الإبن. كان هذا قبل حدوث متغير جديد يتوقف عنده الوثائقي ليستشرف مستقبل علاقة الغرب معه، والمقصود هنا؛ أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. فمنذ تموز 2014 وبعد إسقاط الطائرة المدنية الماليزية بصواريخ روسية وقتل كل من كان على متنها وبسبب الموقف القومي المتزمت لبوتين في صراعه مع الأوكرانيين بدأت العلاقة تسوء وتنحدر نحو الأسفل ولكن ما يهم الوثائقي ليس الدوافع الحقيقة للغرب، بل كان هاجسه إكمال رسم صورة الزعيم الروسي والسؤال عما إذا كان سيتراجع عن موقفه ويخضع لقوة الضغوط. الجواب سيأتي من الشخصيات التي شاركت في كتابة المتن السردي للوثائقي:
لا لن يتراجع فشخصيته وعمله الطويل في حقل المخابرات والتجسس وطموحه الشديد ستجعله أكثر تزمتاً وشراسه وللدلالة على ذلك يعود الشريط "فلاش باك" إلى طفولة بوتين وتجربته حين كان صبياً مولعاً بصيد الفئران المنزلية ونصيحته لأخيه: لا تحاصر الفأر في الزاوية فقد يهاجمك ويعضك!. خاتمة متوعدة لكنها مرتكنة على بناء وثائقي شديد التماسك إلى درجة تغدو فيه أقرب إلى مفتتح لقراءة القادم من علاقة بوتين بالعالم، وربما تفتح صفحة جديدة من سيرته الشخصية التي قطع نيل دوتشرتي شوطاً سينمائياً طويلاً في كتابتها بتمعن ورشاقة.
0 التعليقات:
Enregistrer un commentaire